هي قصة حقيقية نقلتها من احدى المواقع اتمنى ان تنال اعجابكم وتاخدو
منها العبرة
يتسرّب الضوء من ثقوب صغيرة تكفي لأن ترسل خيوطاً متدلّية منه،
تعني بالنسبة لي شمس النهار عندما أرى تلك الشمس نقاطاً بيضاء
واهنة على ذاك الجدار الداكن، أحسّ بها تقتحم ظلمة حياتي.. تتطفل
عليها، ولكنها تصنع بعض الدفء الذي آنس بوجوده، إنها ثقوب هرمة
لا تكفي حتى لأن تنير ظلمة المكان، ولكنها على الأقل تضفي على
الأشياء حولي بعض الظلال فتبدو بعض معالمها الخارجية.
كان هذا حديث نفسي في تلك الزنزانة المظلمة،
لا.. لا أظن أنها زنزانة.. يبدو أنه جحر تحت الأرض، ولكن الفرق
أن من يعيش فيه إنسان!!
في بعض الأحيان آنس بالهدوء، ولكنه الآن يمتد ليصبح صمتاً قاتلاً
لا يداخله سوى صوت الفتحة السفليّة للباب، وهي تفتح لأسمع صوت
الصحن يزحف من تحتها، ثم يقفل الجندي الفتحة بإحكام شديد، أحاول
بعد ذلك أن أتلمس الأرض لأبحث عن صحن لا يتجاوز حجم كفيّ.. لا
أدري على ماذا يحتوي، ولا أستطيع أن أراه.. ولكنني أدرك أنه مجرد
علبة معدنية صدئة أنهكتها رياح الشتاء الباردة لتتآكل وتتفتت،
ولكن أصحابنا أبوا إلا أن يستفيدوا من معدنها المتآكل، ويطعموني
إياه مع ذاك الطعام المزري، دائماً ما أحاول جاهداً أن أتحمّل
طعم الصدأ الذي يمتزج بالطعام.. ولكنني لم أفلح حتى الآن!
لم أكن أتوقع يوماً أنني سأصبح هنا، كنت أسمع عن سجن كبير يحوي
الكثير من السجناء والنظرات المتسائلة كتساؤلي الآن: لماذا أنا
هنا؟! لكنها لم ولن تجد الإجابة؛ فتحاول أن ترسمها على جدران
السجن لتنطق: إنها رغبة أولئك العلوج ويجب أن تُنفّذ!.. لا بل
إنه يكتنز الكثير من العتمة، لم أكن أعلم أن هناك مكاناً يحوي
تلك المساحات الشاسعة من الظلام! ولكني الآن أجربها وأحياها
ليصبح الظلام الوضع الطبيعي لي أما الشمس والضياء ولون السماء
فهذا أغرب شيء من الممكن أن أراه هنا!
أعود إلى ذلك السجن الكبير، إنه أكبر من أن أتكلم عنه، إنه أظلم
من أن ترسمه حروفي وكلماتي إنه أتعس من أصفه! قيل لي قبل أن
أدخله إنه يسمى سجن "غوانتانامو"، لم أكن أعي ما يقولون جيداً،
ولم أحاول أن أتخيله قبل أن أراه.
عندما أمسكوا بي في زمرة من أمسكوا بهم في ذاك المسجد، كنت قد
التزمت منذ فترة ليست ببعيدة، ولم يمض على تديني سوى بضعة أشهر،
قبل التزامي لم أكن أتذوق حلاوة العسل الذي ينساب في صوت المؤذن
كل صباح، كنت أجدني أتثاءب على صدى أغنيات إلى الآن لم أعِ عمّ
تتحدث! فأنام حتى الغروب أو قبله بقليل لأنقر صلواتي التي أجمعها
في آخر النهار وأصليها دون أن أشم رائحة الياسمين تفوح منها، بل
وأعمي عيني عن النور الذي ينبعث في جوانبها.
كانت أحلى متعة لي أن أقوم الليل على أصوات الغناء، أن أتسامر مع
الرفاق، أجوب البر بسيارتي "أفحّط" هنا وهناك حتى إن الجميع يسمع
صوت احتراق العجلات إثر سرعتي الجنونية!
أما الآن فجلّ متعتي أن تتورّم رجلاي وأنا أقوم الليل أصلي في
مصلاي، أبكي ذنوبي "أرجو الله وأتضرّع" أفرغ من خزانة نفسي أوراق
تلك المعاصي المشؤومة أحرقها وأرميها في مهب الريح لينقشع دخانها
عن سمائي، فلا أحبها إلا تلك السماء الصافية صفاء القلوب المعمرة
بذكر الله.
وإن سألني رفاقي: لم تفعل هذا؟ أجيب: هارباً من الجحيم! لم يمض
على ذلك كله سوى بضعة أشهر ليعمّلوني (لأصبح عميلاً لهم)
ويدجّنوني في هذه العتمة المجنونة، والغريب أنهم يسألونني السؤال
نفسه: لِمَ تفعل هذا؟ فلا أجد سواه جواباً: هارباً من الجحيم!
كان الضابط يتعجب، أرى النيران تتأجج في عينيه، أظن أن كلماتي
كانت تغيظه فكان يقول لي: أنت تهرب من جحيم إلى جحيم أشد منه
-يقصد به هذا السجن- لكن غرابته تزداد عندما أرد: بل من جحيم إلى
الجنة بإذن الله. عندها يأمر أصحابه بأن يذيقوني أشدّ ألوان
التعذيب!
مازلت أذكر إحساس التجمد والإنصهار المتناوب.. عندما كانوا
يصبّون عليّ ماءً يغلي، وفجأة يصبّون ماء مثلجاً، فأجدني أذوب
وأتجمّد أذوب وأتجمّد أذو... إلى أن يملّوا مني فيعيدوني إلى
الزنزانة.. ولم لا أتحدث عن صعقات الكهرباء التي أحس عندها أن
روحي تفارق جسدي حتى أظنها لن تعود!
كان هذا قبل أن يرموني في هذه الزنزانة بعد أن يئسوا مني ومن
صنوف التعذيب التي ابتكروها لي!
وها أنا ذا وحيد في هذه العتمة المجنونة أسابق الزمن.. أحس
بالساعات تجري وبالدقائق تلوذ بالفرار! لا أصدق أنني سأخرج بعد
ساعة من هذا الظلام.. بل لا أصدق أنني سأفارقه فقد احتل كياني
وتسلسل إلى زوايا روحي حتى ظننت أنني سألازمه حتى أموت!
أحياناً أتساءل: كم من الشباب والشيوخ سكنوا هذا الجحر وسكنتهم
العتمة حتى طغت على ثقوب الضوء البلهاء التي تصطف على شكل مربع
صغير في هذا الجدار الذي لم أر شكله حتى الآن، على الرغم من أنه
يقف أمامي منذ سبعة أشهر قبل أن أدخلها، كنت أحدث نفسي بأنني
سأكسر كل هذا الصمت، وسأبدّد عتمة هذا الحجر بنور الإيمان في
قلبي، ولكني الآن أراه يخفت شيئاً فشيئاً حتى يمتزج نوره
بالعتمة، ولا أدري أيهما سيغطي على الآخر!
كنت أتحدى الجميع وأقول: ليس هناك من يستطيع أن يبدّد نوري
ويغيّب شمسي ويخطف قمري.. وحتى لو دخلت تلك الزنزانة.. ومهما
كانت مظلمة فأنا أقوى! سأحيل ظلامها إلى نور وليلها إلى نهار..
وحزنها إلى فرح.. ويأسها إلى أمل.. بل سألوّن جدرانها الكئيبة
بألوان الطيف كنت أبلهَ لم أحسب أن كل هذا سينهار سيتساقط بمجرد
المبيت فيها لأسبوع واحد فقط!!
لا بل كنت أحس بكلماتي تذبل.. تتهاوى وتجف عندما أنتهي منها فأرى
جميع النظرات حولي باردة برودة ليلي الكئيب غير مكترثة بما أقول!
وفجأة يفتح باب الزنزانة.. وأحس بيد ضخمة تهوي على كتفي بقوة
تقودني إلى مكان ما، ثم تمتد يد أخرى إليّ تقيدني وتعصب عيني،
الأيدي هنا غريبة إخالها نسجت من ريح كانون! أصل أخيراً إلى
شاحنة وعيناي لم تريا النور بعد! ولكنني أيقنت أني سأرى الشمس
والسماء التي لا أظن أنني أتذكر لونها حتى الآن! ولا أعتقد أنها
ما زالت صافية كما عهدتها من قبل! في الشاحنة الأوقات بطيئة أبطأ
من صوت محركها المتهالك، والظلام لا يزال يلاحقني، والنور لا زال
يفر مني.
تتوقف الشاحنة أخيراً، يُفتح الباب، وتمسك بي ذات اليد الضخمة
الباردة، ترميني خارجاً بعنف وتنهال عليّ بالضرب حتى أغيب تماماً
عن الوعي.
بهدوء أفيق، أفتح عيناي رويداً رويداً، تتسلل خيوط الضوء إليهما
في الزنزانة كنت أحدّق في الظلام، أبحث عن لا شيء! أما الآن فأنا
أحدّق في النور أبحث عن كل شيء.. ها هي الأشياء التي خانتني
ذاكرتي فلم أتذكّر شكلها، ها هي الشمس مكتملة تماماً، ولكنها
تتوارى خلف السحب وتغيب، ها هي السماء بصفاء زرقتها تشوبها ألوان
فرحية، إخالها تشبه ألوان أحلامي! أمشي وأنا أحدّق في الأشياء
إلى اللامكان! ولكن الظلام يداهمني مرة أخرى، ولا أدري لم
استعذبت عتمته!
أخيراً وصلت إلى قرية ألملم شتات نفسي أرمي بجسدي المنهك أفترش
الأرض وألتحف السماء وأنام.. أستيقظ على أصوات ليست غريبة.. أحدق
فإذا أحدهم يسألني: من أنت؟! فلا أجد سواه جواباً: هارب من
الجحيم!