ربما تستطيع نظرية مثيرة للجدل توضيح احد اكبر الالغاز في علم الكونيات. وهي تفيد بان الكون قد انبثق للوجود ليس لمرة واحدة، ولكن بشكل متواصل في حلقة لانهائية من الموت واعادة الحياة. تسمى هذه النظرية بنظرية الكون المدور cyclic universe، ويمكن لها ان توضح السبب في ان الشكل الغامض والمقيت من الطاقة المعروف بـ(الثابت الكوني) والذي يُعجّل انفجار الكون هو اصغر بعدة مرات من المتوقع في نموذج الانفجار الكبير Big Bang القياسي. اقترح باول ستينهاردت من جامعة برينستون ونيل توروك من جامعة كامبردج في دراسة حديثة بان الثابت كان ذات مرة اعظم بكثير، ولكن قيمته اضمحلت مع كل اعادة تجسيد للكون.
لغز حيّر العقول العظيمة
يُعتقد بان الثابت الكوني، المعروف ايضا لامدا lambda، هو شكل من اشكال الطاقة يعمل على ان تثبط الجاذبية نفسها مما يؤدي الى تسارع انفجار الكون. وقد اقترح انشتاين مبدئيا هذا الثابت كقوة معارضة لقوة الجاذبية في المادة لتوضيح السبب في كون الكون يبدو ساكنا، لا في حالة نمو ولا في حالة انكماش. ولكنه طرح هذه الفكرة جانبا في وقت لاحق، على كل حال، حينما اظهرت ملاحظات الفلكي ادوين هابل ان الكون في الحقيقة يتوسع. واعيدت الحياة الى لامدا في اواخر التسعينيات حينما اكتشف الفلكيون ان الكون ليس فقط في حالة توسع، وانما هو يتوسع بتعجيل متسارع.
لازال العلماء غير واثقين من طبيعة لامدا. استنادا الى احدى الافكار الشائعة، فانها طاقة الفضاء نفسها. واستنادا الى فيزياء الكم، فان الفضاء الذي يبدو عبارة عن فراغ خاو يحتوي في الحقيقة على جزيئات شبحية تومض باستمرار داخل وخارج الوجود بما يشبه زَبَد البحر. ان هذه الجزيئات تتحرك بسرعة عالية ولكن طاقاتها تجتمع لتعطي كل سنتيمتر مكعب من الفضاء كمية محددة من الطاقة. وطبقا للنظرية النسبية العامة، فان "طاقة الفراغ" تنتج قوة معارضة للجاذبية تعمل على دفع الفضاء –مع المادة ضمنه- مبتعدا.
ولكن هناك مشكلة: ان قيمة لامدا التي اكتشفها العلماء تقل بعدد مكون من واحد امامه 100 صفر من المرات عن القيمة التي تنبأت بها النظرية. لتوضيح هذا الفرق الهائل، اُجبر العلماء على ان يأتوا بنظريات هي الاكثر جموحا على الاطلاق.
توضيح لامدا
احدى الافكار تقول بان قيمة لامدا هي في الحقيقة ليست قليلة ولكنها تبدو كذلك لانها تتعرض للالغاء من قبل قوة اخرى غير معلومة، بدقة تقترب من الكمال. على انه لحد الان لم يعثر على مكيانيكية يمكن لها ان تسبب مثل هذا الالغاء.
الحل البديل يمكن في الانتقاء الانثروبي anthropic selection، وهي فكرة مثيرة للجدل تحاول ان توضح لماذا تبدو قيمة عدد كبير من الثوابت الطبيعية هي القيمة الصحيحة تماما لانتاج الحياة. لو كانت قيمة لامدا كبيرة جدا، على سبيل المثال، لكان الكون توسع في وقت قصير بعد حدوث الانفجار الكبير.
استنادا لما يسمى بمبدأ الانثروبي Anthropic Principle يجري انتقاء صفات معينة للكون حسب المتطلبات التي يستطيع المراقبون – البشر في حالتنا – ادراكها. بعبارة اخرى، فقط في الكون الذي تكون فيه قيمة لامدا صغيرة، يمكن لكائنات ذكية ان تتواجد فيه، ويمكنهم ان يتعجبوا لماذا تكون قيمتها صغيرة.
هناك عدة افكار حول كيفية عمل الانتقاء الانثروبي. احد الاحتمالات هو وجود عدة عوالم متوازية تتعايش مع بعضها البعض، وكل منها لديه ثوابت من قيم مختلفة، وفي عالمنا يمكن لهذه الثوابت ان تحافظ على الحياة. فكرة مشابهة تقضي بان هناك كون واحد فقط لانهائي، ولكن قيمة لامدا تتغير من منطقة الى اخرى. وقد تصادف اننا نعيش في فقاعة نادرة تكون فيها قيمة الثابت هي بالضبط المطلوبة لتشكيل المجرات والنجوم (ونحن).
لا يطمئن العديد من العلماء للانتقاء الانثروبي لانه يقترح ان القوانين الفيزيائية يمكن ان تكون مختلفة في اجزاء بعيدة من الكون. وفي اقوى حالاته، يمكن النظر للانتقاء الانثروبي على انه داعم لنظرية الخلق، بما انه يتقرح ان الكون متناغم بطريقة ما، خصوصا للحياة الذكية.
يقول ستينهاردت: "تقترح فكرة الانثروبي انه لغرض فهم الكون الذي نراه، علينا ان نضع افتراضات قوية جدا حول اكوان لا نراها. وهي تفترض كذلك ان كوننا ليس قياسيا. ان هذه الافتراضات تعتبر غير طبيعية بالنسبة للعلم ومن غير الواضح فما اذا كان علينا التوغل في مثل هذا الاتجاه الجذري".
كون مدور
اقترحت فكرة الكون المدور لاول مرة عام 2002 من قبل ستينهاردت وتورك، كبديل للانتقاء الانثروبي. يقول ستينهاردت: "ان قيمة لامدا هي احد الالغاز الرئيسة في الفيزياء. لقد كانت محيرة لدرجة انها قادت مجتمع الفيزيائيين الى طريقة الانثروبي. لذلك من المهم معرفة فيما اذا كان يوجد حل غير انثروبي".
وجاءت اخر ارهاصة للباحثين بشأن نموذجهم هذا بان قيمة لامدا تضمحل خلال الزمن مع مرور كل دورة للكون وحتى خلال نفس الدورة. لقد جرّب العلماء تغيير قيمة لامدا من قبل ضمن سياق نموذج الانفجار الكبير القياسي، ولكنها لم تفلح لان الزمن المطلوب لكي تصل الى قيمتها الحالية المنخفضة كان اكثر بكثير من العمر المعروف للكون. ان ضم اضمحلال لامدا الى تدوير الكون يحمل حلا محتملا لهذه المشكلة.
عبقرية
على الرغم من ان الكساندر فيلنكين، وهو عالم كونيات من جامعة توفتس في ماساشوستس وهو غير مشارك في هذه الدراسة، عبّر عن بعض التحفظات حول نظرية تدوير الكون، الا انه قال بان الحل الذي قدمه ستينهاردت وتوروك لمسألة الثابت الكوني كان "عبقريا".
في كون قابل للتدوير، المادة والطاقة الجديدتين تـُخلق في كل حوالي تريليون سنة عندما تصطدم ما يشبه صفحيتي برين Brane على طول بعد اضافي للفضاء. البرينات تنبأت بها النظرية الخيطية string theory(1). ولان الدروات يمكن ان تكون لانهائية، فان عمر الكون قد يزيد كثيرا على رقم 14.7 مليار سنة التي يقدرها العلماء حاليا. وهذا يمنح وقتا كافيا لـ(لامدا) كي تتقلص الى القيمة التي يراها الفلكيون الان.
يعتقد ستنيهاردت وتورك ان لامدا تقل قيمتها بطريقة بحيث ان معدل الاضمحلال يقل مع الزمن. وهذا يعني ان المراقبين الذين يقيسون قيمة لامدا يحصلون على الارجح على قيمة صغيرة لا قيمة كبيرة. وبسبب كون القيمة العالية لـ(لامدا) تمنع الكون -كما نعرفه- من التشكل، فان الدورات الاولى للكون ربما كان خاليا من المجرات والنجوم والحياة. فقط في الدورات المتأخرة، عندما اضمحلت لامدا الى قيمة اصغر بكثير، امكن للمادة ان تتجمع لخلق العالم الذي اعتدنا عليه الان.
يقدر الباحثان ان كل دورة تستغرق تريليون سنة. طيلة هذه المدة يقوم الكون بمرحلته الطبيعية، ولكن حتى يحين الاجل تتحرك المادة والطاقة خلال الفضاء الى ان تضمحل تماما. يقول ستينهاردت: "في الواقع، تصبح من الضآلة بحيث اننا لا نرى حتى ولو جزئية واحدة من تلك المادة الاولية والاشعاع ضمن افقنا، تلك الرقعة من الفضاء التي يمكننا ان نرى".
وحالما يتم افراغ الكون، فان قوى جاذبية ضعيفة تجلب (برينات) كوننا الاثنتين الى تصادم كوني. ان كل تصادم هو اساسا (انفجار كبير) ينفخ في الكون المسن مادة وطاقة جديدتين. يقول ستنهاردت ان نظريتهم الجنونية يمكن ان تـُختبر: نظرية الانفجار الكبير التضخمية تتنبأ بان موجات الجاذبية تحدث -في نهاية رحلة التضخم- أثرا على الموجات الكونية شديدة القصر (المايكروويف)، وهو تشويش من اشعاع كهرومغناطيسي يملأ الكون. اذا اظهرت التجارب المستقبلية نموذج استقطاب ناتج عن هذه الموجات فانها سوف تدحض نظرية الكون المدور، وتطرحها من قائمة الحلول المحتملة لمسألة الثابت الكوني.
(1) النظرية الخيطية تقوم على ان الوحدات البنائية الاساسية للمادة هي ذات بعد واحد وليست جزيئات غير بُعدية كما تفترض الفيزياء الجزيئية، والبرينات هي الاجسام الممتدة مكانيا، اما الصفيحة فهي السطح الذي تشكله تلك الخطوط الاساسية خلال حركتها مع الزمن.